نفي وجود المنافقين من بين الصحابة الأخيار رضي الله عنهم أجمعين (2)

 

نفي وجود المنافقين من بين الصحابة الأخيار رضي الله عنهم أجمعين

By: Dr. Issah Abeebllahi Obalowu

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه الأخيار. وبعد:

يتمسك بعض الناس بآية التى وردت في سورة التوبة (التوبة: 101) في اتهام بعض الصحابة الأخيار بالنفاق، وذلك لاكتفائهم بمجرد السياق في فهم معاني القرآن وعدم مقارنة بين الآيات والرجوع إلى كتب التفاسير وقواعد أصول التفسير.

قال الله تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)التوبة/101.

المنافقون هم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وكراهة الإسلام؛ هم ليسوا بالمسلمين أصلا، فضلا أن يكونوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم خير هذه الأمة بعد نبيها، ولكنهم أظهروا الإسلام لأجل الغرض الدنيوي. لذلك قال الله في شانهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) النساء. والمنافقون من أسوأ أهل النار عذابا يوم القيامة، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (النساء: 145). حاشا لله أن يختار لصحبة أفضل رسله من هم على هذه الصفة الشنيعة.

 

لا بد من التنبّه إلى هذه النقاط الآتية فيما يخص هذه الآية:

الأولى: لا يدخل أحد من المهاجرين في عداد المنافقين حسب تصريح الآية لأنهم ليسوا من الأعراب ولا من أهل المدينة.

الثانية: المنافقون الأعراب حول المدينة كما قال البغوي: "كانوا من مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ، كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ." (تفسير البغوي).

الثالثة: المنافقون من أهل المدينة كانوا من الأوس والخزرج. (تفسير البغوي).

 

هل يعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء المنافقين؟

نعم، يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم عيانا وبعضهم بسمات، وكذلك يعلمهم الصحابة الكرام بسيماهم التي ذُكرت في القرآن. وليس هناك منافاة بين قوله تعالى "لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" وبين معرفته لبعضهم. وقد ذكر الله تعالى صفات المنافقين في كثير من السور، مثل: التوبة، والأحزاب، ومحمد، والمنافقون، والبقرة، والنساء، وغيرها. قال ابن كثير: "وَقَدْ أَنْزَلَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ سُورَةَ "بَرَاءَةَ"، فَبَيَّنَ فِيهَا فَضَائِحَهُمْ وَمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى نِفَاقِهِمْ." وقال أيضا: "وَقَوْلُهُ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} الْآيَةَ [مُحَمَّدٍ:30]؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ بِصِفَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، لَا أَنَّهُ يَعْرِفُ جَمِيعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ عَلَى التَّعْيِينِ. وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي بَعْضِ مَنْ يُخَالِطُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نِفَاقًا، وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ صَبَاحًا وَمَسَاءً." قال القرطبي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَقَدْ عَرَّفَهُ إِيَّاهُمْ فِي سورة براءة". (تفسير القرطبي). وذكر البغوي أن أَنَس بن مالك قال: "مَا خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ." (تفسير البغوي). وقال ابن كثير بأن الله تعالى لم يطلع نبيه على أسماء جميع المنافقين سِتْرًا مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَحَمْلًا لِلْأُمُورِ عَلَى ظَاهِرِ السَّلَامَةِ، وَرَدَّ السَّرَائِرِ إِلَى عَالِمِهَا. (تفسير ابن كثير). وخلاصة القول أن الله قد أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على معرفة بعض المنافقين من خلال ذكر صفاتهم المتميزين بها في القرآن.

 

الأدلة على معرفة الصحابة الكرام لبعض المنافقين

الأولي: معرفة الصحابة لبعضهم من خلال صفاتهم المذكورة في القرآن.

يقول الله تعالى: "فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ" (84). (التوبة). وقال تعالى: "هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (المنافقون: 8). كان الصحابة الكرام يعرفون بلا شك من هم الذين نزلت فيهم هذه الآيات وأمثالها في القرآن. 

 

الثانية: ورد في قصة تخلّف كعب بن مالك ضي الله عنه عن غزوة تبوك، قال كعب: "فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَطُفْتُ فِيهِمْ ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ." أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769). يدل قول كعب هذا على أن الصحابة كانوا يعرفون المتهمين بالنفاق يقينا. وكذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه عن صلاة الجماعة: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ". أخرجه مسلم في صحيحه (654). 

 

الثالثة: يقول الله تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ." (التوبة: 107). يقول البغوي: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بَنَوْا مَسْجِدًا يُضَارُّونَ بِهِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ." (تفسير البغوي). وبالتأكيد، بناة هذا المسجد كانوا معرفين لدى الصحابة رضي الله عنهم، كما كان هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك معروفين لديهم. قال كعب في حديثه: "جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا." قال ابن حجر: "ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ هذا العدد كَانَ مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ وَأَنَّ الْمُعَذِّرِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ كَانُوا أَيْضًا اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَغَيْرِهِمْ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ كَانُوا مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا." (فتح الباري).

 

ومما يدل على معرفة النبي والصحابة لهؤلاء المنافقين ما يأتي من الأحاديث:

الأول: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، «أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا» فَنَزَلَتْ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]. صحيح مسلم: 2777.

 

الثاني: عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ فَزَعَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ» فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ. صحيح مسلم: 2782.

 

الثالث: قَالَ حذيفة: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، فِيهِمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. صحيح مسلم: 2779.

 

الرابع: قال إِيَاسٌ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: عُدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مَوْعُوكًا، قَالَ: فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَشَدَّ حَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ هَذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ الرَّاكِبَيْنِ الْمُقَفِّيَيْنِ» لِرَجُلَيْنِ حِينَئِذٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. صحيح مسلم: 2783.

 

الخامس: قَالَ حذيفة في قوله تعالى {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12]: «مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلَّا ثَلاَثَةٌ، وَلاَ مِنَ المُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ» ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُخْبِرُونَا فَلاَ نَدْرِي، فَمَا بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا؟ قَالَ: «أُولَئِكَ الفُسَّاقُ، أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَوْ شَرِبَ المَاءَ البَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ» صحيح البخاري: 4658.

 

الحقائق الأخرى تتعلق بآية المنافقين في سورة التوبة

الأولى: سورة التوبة من أواخر السور نزلت. ثبت عند البخاري في صحيحه أن "آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ."، نزلت بعد غزوة تبوك. قال ابن حجر: "فَإِنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ كَانَتْ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِلَا خِلَافٍ." (فتح الباري). فيظهر واضحا أنها نزلت بعد فتح مكة، وقد أسلم معاوية وأبوه وخلق كثير ممن يتهم أهل الهواء بالنفاق.

 

الثانية: قد أنزل الله في هذه السورة قبول توبة كعب بن مالك وسائر الصحابة الكرام أجمعين الذين كانوا مع النبي في هذه الفترة، قال تعالى: "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة: 118). قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْره: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهَا فِي شِدَّةٍ مِنَ الْأَمْرِ فِي سَنَةٍ مُجدبة وَحَرٍّ شَدِيدٍ، وَعُسْرٍ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ."  قَالَ قَتَادَةُ: "خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ فِي لَهَبان الْحَرِّ، عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْدِ، أَصَابَهُمْ فِيهَا جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمْ، يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، [ثُمَّ يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا] فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَقْفَلَهُمْ مِنْ غَزْوَتِهِمْ." (تفسير ابن كثير). هذه الآية في الحقيقة بمثابة إعلان قبول توبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قاطبة. ومن قال غير ذلك، نقول لهم كما قال بعض السلف لعمر بن عبد العزيز: "متى علمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟" (الكامل في التاريخ)، وكذلك نقول لكل من أخرج واحدا من خيار الصحابة من بين المغفور لهم، نطالبه حتما بإقامة برهان من الكتاب أو السنة على دعواه.

 

قال صاحب الرحيق المختوم: "وكانت هذه الغزوة {غزوة تبوك}- لظروفها الخاصة بها- اختبارا شديدا من الله تعالى، امتاز به المؤمنون من غيرهم. كما هو دأبه تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179] فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمنا صادقا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل. فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبا، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر. وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم." (الرحيق المختوم).

 

وجود بعض المنافقين من بين الصحابة لا يقدح في عدالتهم بأي حال من الأحوال

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وَالصَّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ يُعَظِّمُهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدِّينِ: كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، وَلَمْ يُعَظِّمِ الْمُسْلِمُونَ -وَلِلَّهِ الْحَمْدُ- عَلَى الدِّينِ مُنَافِقًا". (منهاج السنة النبوية). 

 

كل من أجمع الأمة على عدّه في عداد الصحابة فهو كذلك بلا شك، لأن الله تعالى قد وعد بحفظ دينه، ومن حفظ الدين حفظ نقلته من الكذب والنفاق، وإلا كيف يأمن المسلم على دينه إذا كان نقلته مجروحين؟ فأصبحت ثقة بعدالة الصحابة الكرام حاملي رسالة الله ورسوله إلينا واجبة دينية. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يجمع أمته على الضلالة فأعطاه الله إياه. قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلَاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ كَمَا أَهْلَكَ الْأُمَمَ قَبْلَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا". رواه أحمد: 22082. صحيح لغيره. وفي سنن الترمذي، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي - أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ. وَتَفْسِيرُ الجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ هُمْ أَهْلُ الفِقْهِ وَالعِلْمِ وَالحَدِيثِ." سنن الترمذي: 2167. يدل هذه الأحاديث على أن إجماع الأمة على عداد هؤلاء الصحابة الكرام من بين الصحابة الأخيار قرار مؤيد بهداية الله تعالى وتوفيقه، ولا يجوز لأي مسلم أن يطعن في الصحابة، لأن الطعن فيهم بمثابة رفض إجماع الأمة.

 

قال الشيخ صالح المنجد: "والمقصود أن المنافقين كانوا قلة، معروفين بأعيانهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولحذيفة من بعده، أو معروفين بأوصافهم، فلو روى واحد منهم حديثا لفضحه حذيفة، وقد صان الله حديث نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يرو حديث عن رجل ملموز بالنفاق." (موقع السؤال والجواب). قَالَ الْحَافِظ الْمزي: "من الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز بالنفاق من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم." (التحبير شرح التحرير في أصول الفقه). والمراد بعدالة الصحابة أننا لا نتكلف الْبَحْث عَن عدالتهم، وَلَا نطلب التَّزْكِيَة فيهم، وليس المراد بعدالتهم عصمتهم واستحالة وقوع المعصية منهم. ومن فَوَائِد القَوْل بِعَدَالَتِهِمْ مُطلقًا، إِذا قيل في الإسناد عَن رجل من الصَّحَابَة عن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يكون ذلك كتعيينه باسمه لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْعَدَالَة. (التحبير شرح التحرير في أصول الفقه).

 Read the first post Here

نفي وجود المنافقين من بين خيار الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين)

 

Post a Comment

0 Comments